أَوَّلًا:
(أ) رَبُّنَا الْمَلِكُ الْحَقُّ وَعَدَنَا أَنْ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِتَيْسِيرِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَتَعْلِيمِنَا مَفَاتِحَ هُدَاهُ؛ يَقُولُ جَلَّ عُلَاهُ: ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾. وَشَاءَ تَبَارَكَتْ آلَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ أَنْ يَجْعَلَ رَسُولَهُ الدَّالَّ عَلَى مَا أَرَادَ رَبُّنَا فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ؛ يَقُولُ مَوْلَانَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ .. وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ... ﴾ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: الْآيَةِ 44.
فَالْحَدِيثُ الشَّرِيفُ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَيَانِ مَعَانِي كَلَامِ رَبِّنَا الْحَكِيمِ، وَالنَّبِيُّ الْكَرِيمُ عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُعَبِّرَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، الدَّالَّ عَلَى مَعَانِيهِ، الْمُبَيِّنَ لِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَخَاصِّهِ وَعَامِّهِ، وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ.
فَكُلُّ مُفَسِّرٍ يَبْتَغِي أَنْ يَسْتَبْصِرَ بِنُورِ الْفُرْقَانِ وَيُبَصِّرَ بِهِ - حَتْمٌ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِمِشْكَاةِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْهَا الْغَنَاءُ؛ وَلَيْسَ الضَّعِيفُ وَلَا الْوَاهِي مِمَّا سُوِّغَ نَقْلُهُ فِي الْبَحْثِ الْعَادِيِّ، بَلْ لَا بُدَّ لِلْبَاحِثِ مِنْ تَوْثِيقِ نُقُولِهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ وَالْكِتَابَ الْحَمِيدَ؟!
(ب) إِيرَادُ مَا نُقِلَ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ – وَأَكْثَرُهُ مَزَاعِمُ وَبُهْتَانٌ - تَأْبَاهُ قَدَاسَةُ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ: أَفَاضَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ التَّفَاسِيرِ فِي نَقْلِ مَا لَا يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ، وَأَوْرَدُوا فِي مَعْنَى فِتْنَةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ - عَلَيْهِمْ سَلَامُ اللَّهِ – أَوْرَدُوا إِسْرَائِيلِيَّاتٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ بَعْضُهُمْ لِتَكْذِيبِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطَالَ فِي ذِكْرِ أَسَاطِيرَ وَأَحَادِيثَ وَاهِيَةٍ، حَكَمَ عَلَيْهَا الْبَيْضَاوِيُّ وَالنَّحَّاسُ وَأَبُو حَيَّانَ بِأَنَّهَا هُرَاءٌ وَافْتِرَاءٌ، وَمِمَّا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ: وَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْخَطَايَا، لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ضَرُورَةً أَنَّا لَوجَوَّزْنَا عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَطَلَتْ الشَّرَائِعُ، وَلَمْ نَثِقْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ وَحْيُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ يَمُرُّ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا حَكَى الْقُصَّاصُ مِمَّا فِيهِ غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ طَرَحْنَاهُ.
ثَانِيًا: التَّطْوِيلُ يَبْلُغُ فِي مَرْجِعٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاجِعِ أَنْ يُفَسِّرَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ عُلَاهُ: ﴿ ... مَاءً طَهُورًا ﴾ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ صَفْحَةً، وَفِي آخِرِ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: ﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ﴾ بِمَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ كَلِمَةٍ.
ثَالِثًا: الِاختِصَارُ الشَّدِيدُ حَتَّى لَيُفَسِّرُ بَعْضُهُمْ قَوْلَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ: ﴿ بَلْ ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴾ يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ الْمُبَارَكَةَ بِمَا لَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ كَلِمَةً.
رَابِعًا: الِاستِرْسَالُ فِي بُحُوثٍ هِيَ وَسَائِلُ لِلتَّفْسِيرِ، وَلَيْسَتْ مِنْ غَايَاتِهِ، فَقَدْ يَسْتَقْصِي مَا قَالَ أَصْحَابُ الْإِعْرَابِ فِي كَلِمَةٍ وَاخْتِلَافَهُم فِي ذَلِكَ، والِانتِصَارَ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ وَحُجَّةَ الْمُخَالِفِينَ، وَالرَّدَّ عَلَيْهَا، حَتَّى لَيَكَادُ يَنْسَى الْقَارِئُ مَا كَانَ يَبْتَغِيهِ مِنْ فَهْمِ مَعْنًى لِقَوْلِ رَبَّانِيٍّ حَكِيمٍ، وَقَدْ يَتَّجِهُ مُفَسِّرٌ إِلَى مَعْنًى مُحْتَمَلٍ فَيَسُوقُهُ عَلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ يَمْضِي مُسْتَطْرِدًا فِي التَّعْرِيفِ بِمَا قَصَدَ إِلَيْهِ وَأَطْوَارِهِ،
فَمَثَلًا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى – حِكَايَةً عَنْ قَارُونَ -: ﴿ .. قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي.. ﴾ مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: مِنَ الْآيَةِ 78 – يَقُولُ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَرَاجِعِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ مَا حَاصِلُهُ: ذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي عَلِمَهُ قَارُونُ، هُوَ عِلْمُ الْكِيمْيَاءِ، وَيُتَابِعُ فَيَذْكُرُ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَعَادِنِ تُطْرَقُ، وَأُخْرَى تُسْحَبُ، وَيَنْسُبُ إِلَى ابنِ سِينَاءَ أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ لَهُ فِي الْكِيمْيَاءِ نَظَرِيَّاتٌ، وَيُخَطِّئُهُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَهَكَذَا.
وَلَسْتُ أَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الْمَرَاجِعَ لَيْسَتْ بِذَاتِ بَالٍ، بَلْ لَقَدْ حَوَتْ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ مَا لَا يَجْحَدُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، وَحَاشَا لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبْخَسَ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وَقَدْ بَذَلُوا – رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ – وُسْعَهُمْ، وَأَبْلَوْا بَلَاءً حَسَنًا، لَكِنَّهُ كَمَا قِيلَ: كَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ فَإِنَّا مُسْتَحْفَظُونَ عَلَى كِتَابِ رَبِّنَا الْعَزِيزِ، وَمِنْ أَمَانَاتِهِ أَنْ نُنَافِحَ عَنْهُ وَلَا نَرْضَى فِيهِ بِقَولٍ يُجَانِبُهُ الصَّوَابُ.
وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْهَادِي إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا.
|